• ١٠ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢ ذو القعدة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خلف أجَمَة الألم ثَمّة نور عبر روزنة الأمل

د. نضير الخزرجي

خلف أجَمَة الألم ثَمّة نور عبر روزنة الأمل

بين الألم والأمل مساحة شاسعة من الانتظار، لا حدود بينهما من حيث اللغة، فتفكيكهما ينتهى إلى (ألم لام ميم)، وإن بدت الحدود قائمة وبعيدة المعنى من حيث الاصطلاح، ربما حلّ بعد "ألم" مرير "مال" وفير، وربما "ملأ" المرء ما يحلو له جيباً أو صدراً، وفي نهاية الأمر هي حروف لك أن تصنع منها ما تشاء من ألوف وألوف الألوف.

ورغم الشقة الاصطلاحية بين "الألم" و"الأمل"، بيد أنّ الألم يحدوه الأمل، والأمل محطة قطار الألم، ينزل عندها المرء نازعاً عنه رداء الزمن الوخيم، فالمرأة الحامل وبتعبير القرآن الكريم في وصف الجنين في رحمها (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) سورة لقمان: 14، فالألم يلفها لتسعة أشهر أو تزيد، ولكنها تبدو سعيدة بخاصة إذا كان أوّل حملها، لأنّ الأمل يقودها إلى وليدها الذي سيزيد رضاعته مسؤولية أخرى، فرغم جاذبية الألم لكنها تحلق على بساط الأمل العميم بوليد سليم. وطالب العلم والتلميذ والدارس يلحق الليل بالنهار ساهراً متألماً، عازفاً عن ملذات الحياة ومتطلباتها، يعد العدة للامتحانات والأمل يحف به بنتائج طيبة تقوده إلى مستقبل مشرق.

قد تبدو مفردة الألم متقاطعة مع الأمل، ولكن حروفهما تلتقي عند منعطف خطير فيه تتحقق الأمنيات، وفيه تتبدل القناعات، وفيه يجد المرء ضالته التي ركب من أجلها الصعاب وخاض العباب، متسلقاً سلّم التعب والنصب من أجل تسنم قُلَّة القباب.

لا أحد ينكر اشتياقه الشديد إلى راحة البال يستظل بفيء العدل والحرّية، ولا أحد ينكر تبرمه من الأوضاع المزرية المحيطة به، ولا أحد هو بقانع بما هو فيه، فلا الغني يتوقف عن غناه ولا الفقير يتوقف عن الإلحاح بالسؤال عند العباد أو ربهم، وربما التقى الغني الجشع والفقير الخشع عند حطب "نير" فهذا مليونير أو ملياردير يبحث عن الثروة مثلما هي جهنم كلما سُئلت: (هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)  سورة ق: 30 يجمع عن بخل أو حرام، وهذا فقير يبحث عن لقمة عيش ليتخلص من نير السؤال وعورة العوز، وهذا (مديونير) يتشوق إلى نور في نهاية النفق حتى يتخلص من  نير (الدين همّ بالليل، مذلة بالنهار) كما في الحديث النبويّ الشريف.

 

بين انتظارين

الكلّ في هذه الحياة يجري لمستقر عما يعتقد أنّه الخلاص، وكلّ المعذبين ينتظرونه، ولكن ما هي علامات الخلاص وما هي شرائطها، وما العلاقة الحيوية بين الألم والأمل، وكيف للنفوس المعذبة أن تنتظر ذلك النور الذي يأخذ باللباب ويقمع أرباب الفساد وسراق أموال العباد وجحدة رب الأرباب؟ الفقيه آية الله الشيخ محمّد صادق الكرباسي يقدح في "شريعة الانتظار" فانوس الأمل بالموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ويرشدنا في (76) مسألة فقهية تضمنها كراس شريعة الانتظار الصادر حديثاً (2017م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة من القطع الصغير إلى روزنة الأمل، وقد ألحق بالكراس مقدمة بقلم الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري الذي هو الآخر همّش على (34) مسألة فقهية، ومهّد الكرباسي لمسائل الانتظار بمجموعة رؤى جميلة ونافعة.

فالأُمّة الإسلامية تنتظر المهدي، وأُمم الأديان السماوية تنتظر المخلّص، وشعوب العالم تنتظر المنقذ، فكما يدين الكلّ لربّ، يتشوّق الكلّ إلى المخلّص الذي ينتشلها مما هي فيه، فلا الإنسان في القارة الأميركية الشمالية مرتاح، ولا الأتراح بعيدة عن الإنسان في القارة الأوربية، وفي القارات الأفريقية والآسيوية والأميركية الجنوبية فالحديث ذو شجون، فالانتظار كما يعرّفه الفقيه الكرباسي: (الترقب والتوقع، وفي الاصطلاح هو ترقب المؤمن ظهور الفرج من قبل الله لما يعانيه، وفيما نحن فيه هو الترقب عن كثب لظهور الإمام المخلّص الحجة ابن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنّه سيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ويورث البلاد لمن استُضعفوا من قبل الطغاة، وبه يزهق الباطل ويُحق الحقّ)، وهذا الانتظار والترقب كما يضيف الكرباسي: (له أثر طيب وجميل في نفوس من يعتقد بذلك، لأنّ الإنسان في عصر التدهور، المُطّرد يعيش في مجتمع هو أقرب إلى الإنفلات منه إلى الضبط، وهو أقرب إلى التعاسة من السعادة، وهو أقرب إلى اليأس من الرجاء، تتضايق عليه السُّبُل وتنغلق أمامه الحلول، فلا يجد اليُسر بل يعيش حالة العُسر، كلّ هذه الأمور ترتبط بالنفس.. ومن الصحيح القول بأنّ الجسم السليم للنفس السليمة، فمن لم تكن نفسيته سليمة فلا تسعده سلامة الجسم، والإسلام إنما يعالج الأمراض من جذورها).

وكما جاء في التمهيد فالانتظار: (في عصر الغيبة الكبرى، والذي يمكن التعبير عنه بعصر اليأس، عصر البلاء، عصر الفتن، عصر الظلم، عصر عبّر عنه النبيّ محمّد (ص): الصابر على دينه كالقابض على الجمر) ومن يؤمن بالانتظار وقدوم الأمل يضفي على نفسه راحة ما بعدها راحة، بل: (ومن لطف الله بعباده أنّه جعل الانتظار الذي هو حاجة بشرية لعلاج النفس أن يكون عبادة ليجزي عباده على الانتظار الأجر والثواب حيث تواترت الروايات، فقد قال رسول الله (ص): أفضل العبادة انتظار الفرج)، ويقتضي انتظار فرج خروج الإمام المهدي المنتظر (عج) أن يعمل المرء بما هو خيره وخير مَن يحيط به وخير الأُمّة وخير البشرية، وفي الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق: (مَن سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر مَن أدركه، فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة).

ويختتم الفقيه الكرباسي تمهيده بمجموع توصيات من أجل أن تتفتح طاقة الأمل وتعبق من أزكى ورودها، وأهمها: الانتظار الواقعي عقيدة وذكراً وعملاً بالأركان، تهيئة النفس وإصلاحها، الصبر على المحن، النشاط في عمل الخير، نشر أجواء الانتظار الإيجابي، ومعرفة الإمام وترقب ظهوره في كلّ حين.

 

جدل السلطة

لا شك أنّ الإمام المنتظر والمخلّص يقوم بدور الأنبياء والرسل والصلحاء في إرساء قواعد الخير والصلاح والفلاح، وتتقوم هذه الأسس في ظل حكومة يسعد فيها الجميع تحكم بالعدل، تنتصر للمظلوم وتردع الظالم، ولكن هل يمنع انتظار حكومة المخلّص ودولته من إقامة حكومات عادلة؟

هذا السؤال طالما كان محل احتكاك العلماء من كلّ المدارس الفقهية الإسلامية وغير الإسلامية، لما له من تداعيات على أرض الواقع، فالبعض يرى حرمة قيام حكومة إسلامية قبل حكومة الإمام المهدي (عجل)، وبعضهم لا يرى ضيراً في ذلك، وبعضهم يرى الوجوب، والبعض يرى أنّ من علامات الانتظار عدم الوقوف أمام إشاعة الظلم والفحشاء والدعوة إلى "سياسة التأزيم" على أمل حصول الإنفراج بظهور المنجي، وتتعدد الرؤى والتوجهات، وكلٌّ ينتظر المخلّص على طريقته.

وبكلّ الأحوال فإنّ انتظار الأمل والعمل على تحقيقه من أجل صالح البشرية هو جزء من رسالة الخير التي يدعو إليها المصلحون بغض النظر عن التوجهات الدينية والعقائدية، فالأمل نقيض اليأس، وبتقدير الفقيه الكرباسي في باب "مسائل الانتظار" من هذا الكراس: (انتظار الفرج عبادة كما أنّ انتظار ظهور الإمام الحجة عليه السلام عبادة) وعليه فإنّ: (اليأس من رحمة الله محرَّمٌ شرعاً)، ويقتضي الانتظار العمل الإيجابي إذ: (لا يجوز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنّ المنتظر عليه السلام هو الذي سيأتي لإصلاح الأمور)، كما: (لا يجوز التشجيع على ظهور الفساد بحجة أنّه يقرّب الظهور، بل الواجب النهي عن الفساد والمنكر بكلّ الوسائل المتاحة)، كما: (لا يجوز ترك تطبيق الأحكام الشرعية بأمل ظهور الإمام الحجة عليه السلام) وبتعبير الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري وهو يعلق على المسألة: (والبعض يقول بوجوب ترك التطبيق بأمل الظهور وهو قول سخيف يخالف الدين بأصوله وفروعه!).

ومن الطبيعي أنّ قيام حكومة عادلة له أن يحقق آمال الناس في الحرّية وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولذا فإنّ الكرباسي، على خطى أستاذه مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الفقيه السيد روح الله الموسوي الخميني، يرى الوجوب في قيام الحكومة العادلة فـ: (إذا تمكن من له صلاحية لإقامة دولة الحقّ، وجب عليه القيام بذلك، ويحرم عليه التنصُّل عنها بحجة أنّ الإمام المهدي عليه السلام آتٍ وهو الذي يقيمها)، وفي حال تضارب الآراء الفقهية يرى أنّه: (إذا كانت فتوى مجتهد عدم وجوب إقامة الدولة، أو لا يقول بولاية الفقيه العامّة، فلا يجوز له منع إقامة الدولة)، وبتعبير الفقيه الغديري: (منع إقامة دولة الحقّ- إذا تحققت شروطها- من المحرمات، فالكلام في الموضوع دون الحكم)، ولضرورة الحكومة العادلة، يعتقد الفقيه الكرباسي أنّ: (على المجتهد غير القائل بولاية الفقيه العامّة أن لا يعارض الدولة القائمة بإذن حاكم الشرع القائل بولاية الفقيه في الأمور العامّة، فيما إذا لم يصدر عنهم خطأ)، وإلى جانب هذا الرأي: (يحق للمجتهد غير القائل بولاية الفقيه إعطاء الرأي والاعتراض فيما لا يراه مناسباً)، وفي الوقت نفسه: (لا يجوز للدولة القائمة بولاية الفقيه العامّة أن تضطهد أو تتعامل بسوء مع مَن لا يقول بولاية الفقيه العامة) وبتعبير الفقيه الغديري: (بل ويجب على تلك الدولة إعطاء الحرّية وفسح المجال لكلّ مَن يخالف نظرية ولاية الفقيه العامّة وذلك بلحاظ أنّ الرأي الآخر له حُرمة في الإسلام).

وفي أجواء البحث عن الأمل يظهر دجالون يدّعون المهدوية، وبخاصّة في ظرف سقوط نظام وقيام آخر، حيث يتطلع الناس الى الانفراج والأمل، فيستغل هؤلاء طيبة الناس وتشوفهم إلى شمس الحرّية حتى وإن تطلب الأمر ادعاء النسب إلى البيت العلوي، ولهذا في الفقيه الكرباسي في مسائل عدة يتابع هذا الملف الخطير ويحذر منه ويدعو إلى محاربة الدجالين بكلّ السُّبُل المشروعة وينبه عموم الناس أنّ: (مساعدة هؤلاء في أي خطوة محرّم، ويجب مقاطعتهم في كلّ مناحي الحياة إلى أن يرجعوا إلى رشدهم).

ويفرد الفقيه الكرباسي في نهاية الكراس مجموعة من الأدعية والمناجات التي تقرب المرء من الله وتخلق الوشيجة بين المناجي والمهدي المخلّص، مؤكداً على ضرورة: (زرع الأمل في النفوس وخلع اليأس منها وإعادة النشاط إلى الحياة الاجتماعية والعمل على ما فيه صلاح الأُمّة)، وهو أمل ينشده كلّ ذي ألم ومعذب في الأرض، ويرجوه كلّ صاحب طوية نقية وسريرة سليمة، ويخافه كلّ ظالم للرعية. 

ارسال التعليق

Top